الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
أي سيري فتستريح، قال تعالى حاكيا قول هذا الخبيث {وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِبًا} فيما يدعيه من أن له ربا سواي، بل هو الكاذب قبحه اللّه وأرداه، قالوا إنه أراد بهذا البناء الرفيع رصد أحوال الكواكب التي هي أسباب تدل على الحوادث الأرضية، فيرى هل فيها ما يدل على رسالة موسى، لأنه كان حزاء يعرف في النجوم، وهذا يدل على أنه كان معترفا بوجود اللّه تعالى، ومما يؤيد اعترافه باللّه محاورة المؤمن له ولقومه المارة والآتية وعدم ردّه عليه هو وقومه، وكان اقتصارهم على أمر قتل موسى وعدمه مع الصفح عما يتعلق بالآلهة دليل على اعترافهم بالإله العظيم، إذ ما من أحد إلا ويعترف بوجوده، قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} الآية 26 من سورة لقمان المارة وهي مكررة كثير في القرآن بألفاظ مختلفة والمعنى واحد، وهو نسبه كل شيء للّه {كَذلِكَ} مثل هذا التزيين والصد البذيين {زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ} فانهمك فيه انهماكا لا يرتدع عنه {وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ} السوي الموصل إلى اللّه وصد قومه عنها فضل وأضلهم ومنعه اللّه من تنفيذ ما كاده لموسى {وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ 37} دمار وفساد وهلاك، ولما رأى المؤمن وجوم فرعون وقومه تجاه ما أسمعهم من التحذير والتهديد وضرب المثل فيمن قبلهم قويت شكيته فكر عليهم بالنصح والإرشاد والترغيب فيما عند اللّه تعالى لمن آمن به وصدق رسله، وصرح لهم بإيمانه باللّه وحده والدار الآخرة بما ذكر اللّه عنه وهو {وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ} فيما عرضته عليكم من الهدى ودللتكم عليه من طرق الرشاد المؤدية للخير والسداد {أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ 28} الحقيقي الموصل إلى اللّه لأن الطريق الذي يريدكم فرعون عليه هو طريق الفساد لا الرشاد وهو من أسماء الأضداد وهو يعلم ذلك إلا أن توغله في حب الرياسة وتمحضه في الأنانية والعناد وانهماكه في الشهوات أدى لتصلبه في الأمر وللتمويه عليكم في القول وليغريكم فيما يسرده عليكم لاستدامة استعبادكم وامارته عليكم فأطيعوني، وأنا الناصح الصادق البار بكم، أن تؤمنوا بموسى الذي جاء بما جاء به يوسف قبل الذي خلص أهالي مصر وغيرها من الهلاك المادي والمعنوي، وإن موسى سيخلصكم أيضا من محن الدنيا وعذاب الآخرة إذا آمنتم به، والرشاد نقيض الغي وفيه تعريض بأن ما عليه فرعون هو طريق الغي، لأن غايته التنعيم بالدنيا الفانية وأنه يريدهم للآخرة الباقية ونعيمها الدائم، وشرع يذم الدنيا ويصغرها بأعينهم فقال {يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ} يسير يتمتع بها أياما قليلة ثم تنقطع {وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ 39} الأبدي الذي لا يزول فاعملوا لها لتنالوا نعيمها فهو باق لا يزول أبدا واعملوا يا قوم خيرا إن {مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً} في هذه الدنيا {فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها} ئ سوءا في الآخرة غير جزاء الدنيا {وَمَنْ عَمِلَ صالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} في الآخرة جزاء عملهم الحسن {يُرْزَقُونَ} من النعم الجسيمة والخيرات العظيمة {فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ 40} رزقا واسعا بلا تبعة ولا تقتير ولا إسراف ولا تقدير بمقابلة العمل بل أضعافا مضاعفة فضلا منه ورحمة، وفيها إشارة إلى عظيم فضل اللّه وشرف ثوابه ومزيد عطائه {وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ 41} في هذه الآية طلب منهم أن يوازنوا بين ما يدعونه إليه من اتخاذ الأوثان الموصلة إلى النار أندادا للّه- تعالى عن ذلك- وبين دعوته لهم إلى دين اللّه الموصل إلى الجنة ليتفكروا في هاتين الدعوتين ويميزوا بينهما ويعرفوا ثمرة كل منهما، ولهذا قال لهم {تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ} أنه إله وإني لا أعلم إلها غير الإله الواحد الحق {وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ 42} لمن أناب إليه، ذكر لهم صنفين عظيمين من صفات اللّه تعالى الذي يدعوهم لعبادته بأنه منيع غالب قوي الجانب لا يقابل ولا يغالب، فمن التجأ إليه أوى إلى ركن شديد لا يقدر أحد أن يتسلط عليه، وأنه كثير المغفرة لمن يرجع إليه فلا يهولن من يأوي إليه كثرة ذنوبه وعظيم خطأه فإنه يسترها له مهما كانت، وهو واسع المغفرة، وهذا مما قذفه اللّه في قلب هذا المؤمن الكامل من نور الإيمان والمعرفة، فجعله ينطق بالحكمة توا، إذ أبدل جهله علما وكفره إيمانا وجبنه شجاعة، ومن هنا قيل: ما اتخذ اللّه من ولي جاهلا ولو اتخذه لعلمه {لا جَرَمَ} حقا {أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} من البقاء على دينكم وعبادة الصنم الذي {لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ} مقبولة {فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ} لأنه لا ينطق حتى يدعو الناس لعبادته ومن لا يقدر على النطق لا يجيبه أحد، وإن من حق المعبود أن يدعو العباد لعبادته، فإذا لم تكن له دعوة مجابة في الدنيا فمن باب أولى أن لا تكون له في الآخرة، ولهذا عطفها عليها، لأنها فضلا عن أنها لا تجيب عابديها فيها فإنها تتبرأ منهم وتنكر عبادتهم حينما يؤهلها اللّه للنطق لهذه الغاية {وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ} جميعا نحن وأنتم {وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ} المتجاوزون حدود اللّه في استرقاق عباده السفاكين لدماء الأبرياء الغاصبين أموالهم بغير حق، فكأنه رحمه اللّه أراد أن يختم كلامه بما افتتحه وهو {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} فقال وإن المسرفين في القتل وغيره من سائر المحرمات {هُمْ أَصْحابُ النَّارِ 43} لا غيرهم لأن كل متجاوز حدود اللّه بالقتل والكفر والشرك والفواحش ومات مصرا عليها فهو من أهل النار، كما جاءت به الآيات والآثار.ولا يقال هنا إن اللّه لا يحدد عليه، فله أن يعفو عن أمثال هؤلاء ويدخلهم الجنة، وله أن يدخل من أهل الجنة النار لأنه جل ذكره لا يسأل عما يفعل، ثم ضربهم بآخر سهم من كنانته فقال {فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ} الآن يا قوم غدا إذا لم تؤمنوا بربي وتسمعوا رشدي عند معاينتكم العذاب في الآخرة، وتندمون ولات حين مندم ولا ذكرى أقول لكم قولي هذا {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ} وحده، فإذا أردتم أن توقعوا بي شرا بعد نصحي إليكم فهو لابد منقذي منكم، ولهذا فلست بسائل عن وعيدكم وتهديدكم، فافعلوا ما شئتم، وذلك لما أطال عليهم وجاهرهم بإيمانه هددوه بالقتل أيضا إن لم يقلع عما يقوله لهم فأجابهم بأنه قد أدى ما هو واجب عليه وأنه لا يبالي بهم لأنه معتمد على اللّه، ولهذا ختم مجادلته بقوله {إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ 44} يعلم المحق من المبطل وما يؤول إليه أمري وأمركم فهموا به ليأخذوه فهرب من بين أيديهم وأعماهم اللّه عنه فطلبوه فلم يجدوه وذلك قوله تعالى: {فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا} فحال دون وصولهم إليه وحفظه من مكرهم وأذاهم {وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ} وذلك بعد أن هرب موسى بني إسرائيل ولحق بهم فرعون وجيشه حتى وصلوا إلى البحر وتراءوا وكان ما كان كما بيناه في الآية 53 من سورة الشعراء في ج 1 فراجعه، فكان عذابهم الدنيوي بالغرق، ولعذاب الآخرة أشد كما سيتلى عليك بعد هذا، ومن قال إن هذا المؤمن هو موسى قول لا قيمة له فهو أوهى من بيت العنكبوت، وكأن هذا القائل استكثر على هذا المؤمن أن يقع منه مثل هذا ولم يدر أن نظرة من بحر جوده تقلب المريض صحيحا، والأبكم فصيحا، والمجرم بريئا، والكافر وليا، والفاجر بارا، والرجس طاهرا، قال تعالى معرضا بعذاب آل فرعون الأخروي بعد أن ذكر عذابهم الدنيوي في الآية 130 من سورة الأعراف المارة في ج 1 بقوله عز قوله {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا} وهذا العرض يكون لهم في البرزخ بعد الموت، هو غير عذاب الآخرة بدليل قوله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ} يقال لخزنة جهنم {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ} أعظمه وأكبر أنواعه وأفظع ألوانه وأقبح أشكاله، ومنه إراءتهم أمكنتهم في الجنة لو كانوا مؤمنين ثم زجهم في النار حتى وصلوا إلى قعرها.
|